ترامب وغزة- تحول المواقف ومخاطر التصعيد العسكري

المؤلف: منير شفيق09.12.2025
ترامب وغزة- تحول المواقف ومخاطر التصعيد العسكري

في الثامن عشر من مارس/ آذار عام 2025، شنّ الجيش الصهيوني حملة عسكرية جويّة غاشمة على المدنيين الأبرياء وما تبقى من بنية تحتية في غزة. هذه العملية العسكرية يمكن اعتبارها شرارة لحرب مديدة أو قصيرة الأمد، ومفاجأة غير سارة، ولكنها متوقعة في الوقت ذاته لمن يعرف شخصية نتنياهو، أو لمن تابع عن كثب نهجه السياسي والفكري وإصراره الشديد على مواصلة الحرب ضد غزة طوال الخمسة عشر شهرًا الماضية.

أما بالنسبة لدور ترامب، الشخصية المحورية التي تمتلك قرار الحرب والسلام في قطاع غزة، حتى قبل أن يتولى مهام منصبه كرئيس للولايات المتحدة، فمن المنطقي ألا نتوقع منه السماح بهذه الحرب. فترامب هو الذي منح الأولوية القصوى لوقف إطلاق النار والإفراج عن جميع الأسرى، وقد فرض على نتنياهو الخضوع لإرادته ورغباته، وإبرام اتفاق لوقف إطلاق النار غير راغب فيه بتاريخ 17/1/2025 في غزة.

إذًا ما الذي جدّ واستجد حتى يعطي ترامب الضوء الأخضر لنتنياهو، ليشن هذا الهجوم الشرس، معلنًا بذلك عودة الحرب إلى غزة؟ يحدث هذا بالرغم من عدم الإعلان الرسمي عن توقف المفاوضات الرامية إلى تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار.

لا يزال دور الوسطاء الثلاثة، الولايات المتحدة ومصر وقطر، قائمًا ومستمرًا من حيث المبدأ. مع الأخذ في الاعتبار وجود تناقض صارخ مع عودة الحرب على أرض الواقع، وبتصعيد تجاوز المعدل اليومي الذي شهدته المرحلة السابقة من الصراع.

الأمر الذي يستدعي التمعن والتدقيق في هذه الحملة العسكرية، في يومها الأول، وكذلك في استمراريتها، إذا ما استمرت، هو تحديد التغيير الذي طرأ على موقف ترامب والذي دفعه إلى تغيير قناعته. وكيف أعطى الضوء الأخضر لنتنياهو، الذي لم يدخر وسيلة لإقناع ترامب بتغيير موقفه، ولكنه لم ينجح في تحقيق مبتغاه.

تغيير موقف ترامب ليس أمرًا مستجدًا أو مفاجئًا، فهو معروف عنه التقلب والتغيير المستمر. ولكن من زاوية أخرى، هذا التحول في موقفه فيما يتعلق بهذه القضية تحديدًا، يستلزم تقديم تفسير منطقي ومقنع.

جدير بالذكر أن نتنياهو وحلفاؤه في الولايات المتحدة بذلوا محاولات مضنية لثني ترامب عن الضغط من أجل وقف إطلاق النار، قبل أن يتسلم مهام الرئاسة في ولايته الثانية، ولكن هذه المساعي باءت بالفشل الذريع، أمام الإصرار القوي على وقف إطلاق النار. الأمر الذي أجبر نتنياهو على الرضوخ لرغبة ترامب، على الرغم من أنفه.

صحيح أن الإعلان عن وقف إطلاق النار والشروع في تنفيذ بنوده المتعلقة بالأسرى، قد فاجأ ترامب من حيث حجم الانتصار الذي حققته المقاومة الفلسطينية، والذي عبر عنه الشعب الفلسطيني باحتفالات عارمة. كما تجلى هذا الانتصار في زحف الجماهير من الجنوب إلى الشمال، بالإضافة إلى الاحتفاء بمراسم تبادل الأسرى دفعة بعد دفعة، وفقًا لما تضمنته المرحلة الأولى من تنفيذ الاتفاق.

لا ريب في أن ترامب ومساعديه ينحازون بشكل كامل للكيان الصهيوني، وقد صعقوا من حجم الانتصار الفلسطيني، ومن المشاهد التي عكست قوة المقاومة وتلاحم الشعب. وتفاجأوا أكثر عندما وجدوا أنفسهم في موقف حرج سياسيًا، يضطرهم إلى تنفيذ ما تبقى من بنود الاتفاق، للإفراج عن جميع الأسرى الفلسطينيين.

لقد سعى ويتكوف، مبعوث ترامب لتنفيذ الاتفاق، إلى صياغة اتفاق جديد للمرحلة المتبقية، يلغي ما تم الاتفاق عليه سابقًا، خاصة فيما يتعلق بالانسحاب الكامل لقوات الاحتلال من قطاع غزة، وتوقيع اتفاق لوقف الحرب.

إلا أن هذه المناورة المكشوفة، سرعان ما فشلت بسبب تعارضها الصارخ مع بنود الاتفاق الموقع، وإصرار المفاوض الفلسطيني على تنفيذ ما تم الاتفاق عليه، وعدم السماح بالتهرب منه.

هنا أدرك ترامب ومبعوثه أن الأمور قد انقلبت ضدهم. وذلك لسبب بسيط، وهو استحالة تحقيق ما لم يتحقق بالحرب والمواجهة طوال الخمسة عشر شهرًا الماضية، عن طريق السياسة والضغوط.

وهو الأمر الذي فرض عليهما التضحية بمصداقيتهما، خاصة بعد تصريحات ترامب التي أكد فيها إصراره على إطلاق سراح جميع "المختطفين" الأسرى، وذلك بالانتقال إلى اتباع سياسة الضغط، عن طريق الحرب والإبادة البشرية، والتدمير والترويع والتخويف، تكرارًا لسياسات بايدن ونتنياهو الإجرامية الدموية الفاشلة.

سوف يتبين لترامب أن هذه السياسة ستؤدي إلى عزلته دوليًا، والدليل على ذلك هو الإجماع الدولي شبه الكامل الذي استنكر العودة إلى الحرب وجرائم الإبادة، منذ اليوم الأول في الموقف من العودة إلى الحرب.

لكن أخطر ما قد ينجم عن هذه العزلة والفشل، هو لجوء ترامب إلى الهروب باتجاه شن حرب ضد إيران، أو التوسع في سياسة الحروب بدلًا من سياسة الصفقات الضاغطة، والمبالغة في العقوبات الأشد فالأشد.

وبهذا سيجد نفسه يعاني من فشل ذريع في كلا الاستراتيجيتين، إذ تتجهان إلى تحقيق أهداف مبالغ بها، وتتباعدان عن "الاعتدال" ومراعاة الحد الأدنى من المعقولية. وذلك بعيدًا عن التطرف الأقصى سواء أكان بالحرب أم بالصفقات والعقوبات.

هنا سيجد ترامب نفسه متورطًا في حرب ضد غزة، بالإضافة إلى حربه ضد اليمن، دون أن يحقق أيًا من أهدافه. أي عدم خضوع المقاومة والشعب في غزة أو اليمن، قيادة وشعبًا، وسيجد نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما: التراجع أو الدخول في حرب برية نتائجها غير مضمونة، بل ستكون كارثية على مشروعه بأكمله الذي وعد به ناخبيه.

أضف إلى ذلك أن هذه الحرب، وخاصة في غزة، ستكرس الصورة المتدهورة للكيان الصهيوني، باعتباره كيانًا مارقًا، ومجرم حرب وإبادة، ومدمرًا شاملًا، ومستهترًا بالقانون الدولي والقيم الإنسانية.

وسوف تلطخ سمعة ترامب، مع أولى غزواته العسكرية، بكل ما يشينها، دون تحقيق النتائج المرجوة. وذلك ما دام الطرف المقابل صامدًا ومقاتلًا، وحاملًا للقضية العادلة، ولا يغير موقفه قيد أنملة.

وأخيرًا وليس آخرًا، سيواجه ترامب لأول مرة، وهو في قمة عنجهيته، القانون الشهير: "انتصار الدم على السيف". وذلك حين يحارب شعبًا مظلومًا، يدافع عن قضية عادلة، ولا يخضع حين يتعرض للعدوان وجرائم الإبادة والتدمير شبه الشامل.

فالحرب، ما لم تحقق إنزال الهزيمة العسكرية بالعدو واستسلامه، لن تؤدي إلى نصر، إذا ما أصرت على القتل الجماعي والتدمير. ولا تجد قيادة جبانة أو ضعيفة ترضى لنفسها الاستسلام. وهذان الشرطان غير متوفرين على الإطلاق في غزة وفي اليمن.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة